الأربعاء، 24 سبتمبر 2014

تمبكتو:فيلم وحلم

نحلم أحيانا وننساق وراء السراب لتأتي رياح الواقع المثقلة بالهموم وتوقظنا بصفعاتها البائسة وبالأمس كان لي موعد مع تلك الحالة،فقد حاولت تجسيد حلم طالما راودني وهو،دخول فيلم سينمائي موريتاني في دار عرض موريتانية، تحقق الأمر في جانبه الأول، فقد قطعت تذكرة لفيلم تمبكتو الموريتاني ولكن الدار فيها كلام وكلام، المهم، ما إن جلست على المقعد في انتظار العرض حتى جاء وقت تصدير الكهرباء إلى دول الجوار المسكينة وقطعت الكهرباء عن عاصمتنا المسكونة بالايثار وتقديم الاَخرين على نفسها.
انتظرت وعشت حالة من الغضب من الفعل المتخلف والناموس ورجعت لواقعنا الشقي،  انتهت المعاناة بعد ساعات وعادت الكهرباء من رحلة التصدير، وبدأ عرض الفيلم، وكان على قدر التوقع بالنسبة لي، فقد سار بي إلى عوالم جميلة من المشاعر الانسانية والصراع بين الحياة والموت، بين الطبيعيين من البشر والمرضى النفسيين، بين الفن والابداع والتخلف، وأكثر ما أعجبني فيه الرمزية السحرية وغياب المباشرة في الطرح ومحاولة مخرجه تقديم صورة بانورمية لحياة الناس في البقعة التي اختار لأحداثه وهي مدينة تمبكتو أثناء سيطرة الجماعات المتطرفة عليها، حيث قام بذلك من دون أن يربكنا بتفاصيل علينا البحث عنها في الأفلام الوثائقية أو الكتب أو التقارير الصحفية، من ضمن المشاهد التي أخذتني، غناء سيدة تتعرض للجلد من قبل الجماعة الإرهابية المتطرفة في الفيلم والطريقة التمثيلية والاخراجية التي ظهر لنا بها المشهد،  ومشهد مباراة شباب المدينة بدون كرة قدم بعد أن حرمت فيها تلك اللعبة من قبل شذاذ الاَفاق المسيطرين على المكان، والرقصة التعبيرية التي أداها أحد أفراد الجماعة المتطرفة بجوار المجنونة الأنيقة في الفيلم، ومحاولة المخرج تقديم لمحة انسانية عن المنخرطين في الجماعات الارهابية وأيضا وجود حالة من الفسيفسائية في الفيلم واظهار الجانب الابداعي لثقافات المنطقة المتعددة، عبر رحلات سريعة مع الموسيقي الجملية التي مازلت أتصور كيف لها أن تخرج من مكان وواقع كالذي يظهر في الفيلم؟ّ!.
استمتعت أيضا بأداء الممثلين وقدرتهم الفائقة على التقمص والابداع، وهو أمر لم أستغربه، فمن ضمنهم أصحاب إطلالات عالمية مثل الممثل الفرنسي ذو الأصول العربية أبل جفري الذي شارك سابقا في فيلم اَلام المسيح لميل غيبسون والممثل التونسي هشام يعقوبي، وراقت لي إطلالة الممثل الموريتاني سالم دندو، وكان لإشراف التونسي سفيان الفاني على إدارة تصوير الفيلم دور مهم في ألقه، فالمبدع التونسي سبق وأن أشرف على تصوير الفيلم الفرنسي"حياة أديل"للمخرج الفرنسي من أصل تونسي عبد اللطيف كشيش الفائز بالسعفة الذهبية لكان سنة 2013".
باختصار، أعجبني الفيلم كمتلقى وشعرت أنه يتخطى حدود المحلية والمكان ويعالج هما عالميا بأسلوب محكم يستحق الاشادة والولوج إلى المهرجانات الدولية، وهو ماحدث بالفعل، فسبق و دخل في المسابقة الرسمية لمهرجان كان العريق، أما أهل السينما فلهم قطعا نقدهم فهم بالبطع أعلم مني أنا الشغوف فقط، لكن، يظل الواقع صادما وحقيرا، فأنا أشعر بالحنق كلما تذكرت أن مخرج الفيلم هو عبد الرحمن سيساقو، ذلك المبدع الهائم في حالة من التردي تتمثل في كونه إختار أن يصبح مجرد جزء من نظام فاسد يهين الشعب بدل أن يكون مثقفا عضويا يحارب من أجل كرامة شعبه.


لقطات من فلم تمبكتو

الأحد، 7 سبتمبر 2014

ملاحظات زائر لاسطنبول


هناك مدن تملك شخصية فريدة تفرض عليك احترامها بل الكتابة عن حالها، وهناك مدن شاحبة تتمنى لو يأتي نيزك ليخلص الكوكب من بشاعتها، وهنا سأتحدث عن الصنف الأول من خلال مدينة إسطنبول التي زرت قبل أيام، تلك المدينة الضخمة الضاربة في جذور العراقة والتاريخ .

إسطنبول بعيوني
منظر من مضيق البوسفور

لم أزر كل إسطنبول لأن مدة إقامتي لم تزد عن أيام ستة وحتى ولو طالت للشهر فلن أستطيع أن أزور كل أماكنها؛ فالمدينة أضخم مما تتصور فهي خلاصة لحضارتين وتماس لقارتين، لكنني استطعت خلال فترة إقامتي أن أجد الوقت لعيش بعض اللحظات الاسطنبولية، فقد حلقت مع التاريخ من خلال جامع السلطان أحمد أو الجامع الأزرق، المسجد ذو المآذن الستة والصحن الكبير الجذاب الواقع في ميدان السلطان أحمد، ذلك الميدان الرائع الزاخر بعبق الجمال والفن، حيث يضم التحفة المعمارية المسماة أيا صوفيا، التي بدأت عملية البناء فيها عام 532م بأوامر الإمبراطور جستنيان.  فكانت في الأول كاتدرائية قبل أن تحول إلى مسجد بعد دخول الإسلام إلى القسطنطينية عام 1453لكنها احتفظت بالرسومات الدالة على المسيحية، لتمر دورة الزمن وتحول إلى متحف في عهد أتاتورك سنة 1934، وتعبر اَية صوفيا بشكل جلي عن حالة التلاقح بين الحضارات التي مرت بمدينة اسطنبول.
وليس ببعيد عن عالم العمارة، خضت تجربة مضيق البوسفور؛ فقد عشت مع أصدقائي حالة رائعة من التوهج والانبساط وذلك أثناء رحلتنا في المضيق، حيث شاهدنا المدينة من زاوية أخرى أكثر جمالاً وديناميكية، وكانت عبارة عن عرض للأيقونات المعمارية العتيقة في المدينة- مثل القصور العثمانية القديمة-في ظل حالة من العوم والغوص في الجمال لم ينغصها سوى محاولة عائلة عربية فرض توجهها على الجميع و رفض بث أي نوع من الموسيقى أثناء الرحلة البحرية.
وأكثر ما أعجبني في اسطنبول لم يكن العمارة ولا الطبيعية بل حالة الالتحام والحرية الموجودة في شارع الاستقلال وميدان تقسيم؛ فقد سررت بالأمواج البشرية المتدفقة في الميدان والشارع والزوار الجالسين على مطاعمه ومقاهيه، فهناك تحدث مناغات الجمال والانطلاق وكسر كل الحدود، فلا سقف للمشاعر والتعبير شفاف حد النزاهة وتصادف الفن بكل صوره الرائعة. وقد حضرت لعزف السماء لأنشودة المطر واحتضان الأرض لها بكل ود وحميمية عكس ما يحدث في عاصمتنا الشاحبة التي تكره المطر.
حديث التكاسي
من الصعوبة بمكان أن تجري حوار مفهوم مع سائقي التاكسي في مدينة اسطنبول رغم أنهم يحبون الكلام  والحديث تماما كالمثقفين في الفضائيات العربية، والسبب في صعوبة التواصل هو أن لغتهم واحدة وهو حال أغلب سكان المدينة، لكن رغم ذلك تحدث لحظات من الحديث لا أعرف بأي لغة تتم، لكنها تحدث، وأول سؤال يطرح عليك سائق التكسي بعد معرفته من أي بلد أتيت، هل أنت مسلم؟، وحسب ما استنتجت أن الدول العربية بالنسبة لهم مجرد أنماط، وهي: مصر والجزائر والسعودية وأخواتها من دول الخليج  وسوريا وفلسطين ولا يعرفون طبعا شيء عن موريتانيا وبقية الدول، وأغرب ما صادفت في المدينة هو أحد السائقين، حيث سأل صديقي من السودان عن بلده وعندما أجابه، رد عليه قائلاً:" السودان هي داعش، فهي والسعودية وقطر يمولون داعش، وكل السودان إرهابيين"، وأردف قائلاً: أنت ليست لديك مشكلة لكن السودان إرهابية وظل مصرا على ذلك.
العرب بإسطنبول
حالة الشغف بالمدينة والاستمتاع بها تتوقف بشكل مربك حين تصادف بعض الحالات العربية الموجودة بها؛ فحين تتجول بالميادين وتنظر خلفك أو بجانبك ستجد أحد المواطنين السوريين وهو يمد لك يده طالبا صدقة أو مساعدة بعد أن بطشت بهم يد الطغيان وأجبرتهم على الهجرة بحثا عن ملجئ، حيث تخرج من أي لحظة استمتاع لترجع بسرعة البرق إلى الواقع العربي المخزي، وحين تتجول بشارع الاستقلال ستخرج في الحال من حالة النشوة حين يأتيك أحد المنسقين الاجتماعيين ويعرض عليك بلغة عربية مكسرة"البنات والسهر" ظنا منه بأنك من مواطني إحدى الدول الخليجية الذين تركوا فيما يبدو صورة نمطية سيئة عنهم، وتكون الصدمة أكبر حين تجد أن من بين  أولئك  المنسقين عربا فضلوا تجارة الجسد ببلاد الغربة.

لكن هناك ما يدخل السرور، مثل اكتشاف أن هناك من يتحدث العربية بعد أن ضاقت بك السبل ومللت من سماع كلام غير مفهوم أو أن تصادف محلاً محترما يشرف عليه عربي؛ فهناك نشاطا تجاريا عربيا ملحوظا في المدينة خاصة من طرف المواطنين السوريين. ويوجد أيضا حضور للقضية الفلسطينية، فقد لاحظت الكتابات الحائطية الداعمة لغزة.
اَيا صوفيا تصرخ:الحرية لغزة