الأحد، 21 أكتوبر 2018

نحو بلاد الباوباب، سرت



"انظروا إلى المباني الشاهقة والجذابة، وللطريق السريع والرحب والمرحب، لقد دخلنا داكار". قالها بابتهاج تنغصه حسرة وغصة وغضب وكمد، وترك لسانه كالشلال المنسكب بقوة، يمجد اللحظة ويجلد الذات. وهو المريض الباحث عن علاج لم يجده في وطنه.
وتبعه في ذلك بقية ركاب الحافلة القادمة من نواكشوط، عاصمة الشحوب الأزلي، المدينة التي لا تشبه المدن، ولم يبدأ ذلك الحديث والشعور عند ولوج دكار بل منذ عبورنا عن طريق سد "دياما" ودخولنا الأراضي السنغالية، وكان يتعمق كلما توغلنا جنوبا، حيث توقفت عبثية الطريق وعذاباتها، ففي السنغال طرق لا ترصعها الحفر، وأعدت لتنقل البشر وليس للتدريب على المسالك الوعرة والفاتكة، وطوال الرحلة، كانت المقارنات بين ضفتي نهرنا، الجنوبية والشمالية، تسيطر على أحاديث الركاب، وهم قوم من مشارب شتى.
وأكثر جملة ترددت على الألسن، هي:" ليس لديهم غير الفول السوداني والبقوليات وحالهم أفضل منا نحن ملاك الذهب والحديد والسمك وأشياء أخرى".
ورغم محاولات البعض التخفيف على نفسه بالقول أن السنغاليين يطلبون الصدقات لبناء دولتهم، لكنهم يتذكرون أن موريتانيا دولة مسكينة، باحثة عن "الصدقات"، لكن حكامها يلتهمون كل شيء، الثروات والصدقات، فيشتد الأنين والسخط.
***
حين خرجنا من نواكشوط وتقدمنا قليلا في الطريق، بدأت حكايتنا مع البؤس تستفحل، فلا شيء هناك يذكر بغيرالفناء البشع والذبول، وكل متر نقطعه كان يصدق ويصادق على ما جاء في الوثائقي الجزيري المعنون بالطريق إلى داكار، الذي أغضب قبل أشهر "أنبياء" "شعب الله المختار" وجماعات وطنية تمجيد البؤس والفساد.
وظلت الحفر والمطبات تنكل بنا طوال ما كان يطلق عليه "طريق روصو"( رحمه الله وغفر له)، ولم يتوقف ذلك الهم، إلا عند وصولنا لمنعرج كرمسين، حيث بدأ ما يشبه الطريق وبدأت ملامح جمالية تتسلل لرحلتنا، وخفت مظاهر البؤس الموحش، وأصبحت الطبيعة الجميلة ترطبنا؛ بدأت الحياة هناك في أرض الخنازير البرية( عرات)، وحين دخلنا حظيرة جاولينغ، ازدانت اللوحة، ونسينا أن الطريق غير معبد، فقد خطفنا الخضار والحياة البرية البهية، والتربص بعائلات عرات( الخنازير البرية) والزواحف البحرية والتماسيح والطيور الجميلة، وتفاصيل تلك الحياة البديعة والبكر، فلم يسحقها البشر بعد.

وعند وصولنا للحدود الوهمية، لاحظت ما كنت أسمع من قبل، أن الناس هناك، مختلفون ويصعب عليك التمييز بينهم، فالقوم متجانسون وتحضر الحسانية والولفية في ألسنتهم بشكل متقارب، مزيج جميل، لمسته في شمال الأرض وحتى جنوبها، فسائق الحافلة التي نقلتنا من الحدود لعاصمة جنوبنا، داكار، سنغالي الجنسية وينحدر من مدينة سنغالية، غير بعيدة من موريتانيا، لكنه يتحدث الحسانية بطلاقة ولو سار في شوارع نواكشوط لن يلفت أي انتباه.
***
تمثال نهضة افريقيا

كانت توقعاتي لداكار أفضل مما رأيت، فكنت أظنه في مستوى " نيروبي" أو مثيلاتها من عواصم إفريقيا الجميلة، فلم أزره من قبل، ولم أره إلا من خلال الطائرة ذات عبور قصير. وفيما يبدو أن مدننا نحن سكان الغرب الإفريقي، لا تنافس!، لكنه بالمقارنة بعاصمتنا الشبحية، يعتبر مدينة مزدهرة ومبهرة، كأنه باريس.
داكار مدينة حيوية، فيها نقل عام معقول وأنشطة ثقافية ورياضية تغازل عيونك إعلاناتها أينما حللت، وساحات عمومية جميلة ومناطق خضراء لطيفة، كالسنغال عموما، ومسارح وشوارع وشواطئ معدة( رغم التلوث والأوساخ) للحياة، وأكثر ما جذبني في المدينة ولم يخيب ظني، هو تمثال نهضة إفريقيا، فهو صرح مهيب وفيه إبداع فريد؛ ومنطقته بديعة، ترى منها داكار والمحيط الأطلسي في اشراق وهناء.
وهو مشروع ضخم بني بإشراف كوري شمالي وأثار وقت تشييده الكثير من اللغط والرفض، وقد أتفق مع من يقول أن بلدا فقيرا له أولويات تنموية أهم من أمثال تلك الصروح والنصب التذكارية، لكنه جميل ومهيب وقد أسرني، كأشجار الباوباب السنغالية العتيقة والفارعة.
دكار عاصمة لدولة علمانية، وفعلا يرى المار مؤشرات لذلك في الفضاءات العامة والأسواق والمحلات، لكنني لاحظت حضورا طاغيا لمشايخ التصوف والمرجعيات الدينية، ففي كل ركن أو حانوت وحتى باص أو تاكسي ترى صورة لأحدهم وأدعيتهم؛ يطاردونك كلما خرجت للشارع، وخفت أن يخرجوا إلي من حنفية المنزل، وحتى حضورهم في المشهد السياسي جلي وطاغي، وبين الناس كذلك، وحين قارنت وضعهم بوضع نظرائهم في" الجمهورية الإسلامية الموريتانية" وجدت أنهم أكثر حضورا في السنغال، فالزخم الذي يحصل عليه رجال الدين هناك لا يحصل على ربعه أصحابهم في موريتانيا، فجماعتنا مساكين كالصحافة والمثقفين، يتبعون العساكر ويستخدمونهم في نزواتهم وبطشهم لا أكثر، مع استثناءات قليلة. ولمست من جدران المدينة حنق على فرنسا، فشاهدت بعض الغرافيتي الغاضب من الهيمنة الفرنسية على السنغال.
وفي السنغال، لاحظت أن هناك نوعا من التعامل السمح مع الموريتانيين، فالطلاب هناك بل المقيمين لا تفرض عليهم رسوم للإقامة، عكس السنغاليين في موريتانيا، الذين يعانون من رسوم الإقامة ويتعرضون للتوقيف الليلي والتنكيل بسببها.

الأحد، 16 سبتمبر 2018

عن مكان يحب المطر

الصورة من حساب الصديق  @Sirius_MR على تويتر


تناهى لسمعي أن السماء أكرمت مدينة بوتلميت بقدر وفير من عرقها المبارك والرحيم، فوصل تقدير البشر لتلك النفحة الغزيرة والمرطبة، ب61 ملم.
حدث هذا بعد سنوات من القحط والجدب والحرمان، وبعد دهر من الفتور بين سماء وأرض المدينة المخذولة.
***
أعادتني أخبار المطر الطيب، لأيام كانت السماء تحب تلك الأرض وتكرمها بالمطر الجزيل، فلا أتذكر أن السماء غمرت المدينة في العشرية الأخيرة، بمثل هذا العطف، فحرمان المدينة قديم.
و ذكرني هذا التهاطل الكثيف، بهطول للمطر حدث أيام طفولتي، أعرفه باسم لن أذكره لدواعي حقوقية وذوقية، ورغم أنه جمل المدينة وخضر نواحيها وبث فيها الحياة، إلا أنه ترك ذكرى حزينة، وهي وفاة شابة بسبب المطر، تقول إحدى الحكايات الشعبية التي استوطنت ذهني، أنها غرقت في بئر مطمور كشف عنه المطر، ولا أعرف إن كانت تلك القصة حقيقية.
وسبق ذلك التهاطل ملحمة من الرعود المزلزلة؛ لا يزال صداها في أذني.. فكنت أتخيلها صهاريجا عملاقة ترمى على طريق الأمل من مكان شاهق العلو، وبروقا لا يفارق مخيلتي بريقها.
وتبعها اخضرار بهيج، فحتى "حوش" منزلنا في "الكود"، أصبح مكانا زراعيا لطيفا، فلا أزال أتذكر سنابل تلك السنة وأوراق الفول السوداني والطماطم التي نبتت فيه دون جهد كبير.
***
المطر أيام طفولتي، كان يعني البحث عن البرك النظيفة، البرك الصالحة للسباحة، كان هو الذهاب للنطفية الشرقية والساحلية وأي مظان للماء، وهو الركض نحو الكثبان الشاهقة للتزلج عليها ب"السيالات".. كان هو " علب بكل" وما يجاوره من كثبان بديعة، و"العلب الساحلي" وأي مكان يسمح بأن تتلون ثيابي باللون الذهبي الآسر.
كان المطر هو السير دون كلل ولا ملل نحو ضواحي بوتلميت للبحث عن "آتيل" وقطف "لمساويك"؛ كان التشرد الجميل والبوهيمية الحقة والسمحة.
***
اغتسلت المدينة التي تحب المطر إذن، وارتوت بعد عطش فاتك، فهل يلي ذلك اغتسال أعمق من أدران التزوير والظلم؟ أتمنى.

الثلاثاء، 27 فبراير 2018

رحلة إلى أرض الكثبان البيضاء

منظر من منطقة تندوجة

توقفنا عند مرتفع رملي باهر البياض، فريد الجمال، وأسفله سهل فسيح، خلاب ومريح للعين، تجاوره بعض من أشجار الطلح وتيشط وآتيل، قد تساقطت أوراقها لكنها ظلت شامخة، تنتظر عناق المطر الحرون، وتتناثر قربه شجيرات من تيتارك وأم ركبة، في مشهد بديع يميز أرض آوكار وآمشتيل، تلك البقاع الرائقة حتى أيام القحط والجدب، فالسماء والهواء والكثبان الرملية النظيفة ذات الملمس الحريري المداعب للأجساد- جعلتني تلك الكثبان أحرف كلام إبراهيم الكوني، وأقول: لن يذوق طعم الحياة مَن لم يتنفس هواء الكثبان-، تجلب السكينة والحبور، ففي تلك الصحراء الواسعة، تناغم ونقاء أخاذ وداهش، فصباحها المنعش وشروق شمسها المبهج و غروبها الآسر وليلها الساحر ونجوم السماء الوضاءة، يهذبون ويمتعون الروح.

توقفنا ونحن في حالة ضياع نصفي أو لا أدرية وشك، وعند النزول للسهل، قابلنا أحد الرعاة يرافق قطيعا من الغنم، فسألناه عن وجهتنا؛ فدلنا على الطريق، وبعد أن تقدمنا عنه اكتشفنا أنه إحدى تجليات المعنى الصحراوي، فالرجل حكاية تحرر من قيد العبودية والجهل، فقد تعرف عليه أحد رفاق الرحلة.

وحكى لنا قصته، حيث كان ذات يوم ضحية استعباد، وفي أحد أيام العبودية الميلودرامية، كتب له من كان يستعبده في ورقة" أنت عبد جاهل"، وبما أنه لم يكن باستطاعته القراءة، استعان بشخص ليفسر له المكتوب. آلمت الجملة البغيضة صاحبنا أيما ألم، وبعدها، قرر الثورة وتغيير ذلك الواقع الظالم، وفك القيد ورفض الذل. ثابر وقاوم حتى" افتدى" نفسه من مستعبده الغاشم، وانتقل إلى شيخ زاهد في حطام الدنيا وصراعات أهلها، مبتعد عن المدينة؛ فكلما اقتربت منه رحل بعيدا ناشدا المزيد من النقاء.

وعند هذا الشيخ تعلم دليلنا الدرويش الثائر القرآن وأخذ الإجازة، وأصبح حرا كما يليق بأبناء الصحراء، فالصحراء هي الحرية ومبعثها، واليوم يملك قطيعا من الغنم، يعيش منه هو وزوجته، ويذهل الناس بترتيله للقرآن؛ فصوته جميل ومرطب للروح.

***

الضياع في الصحراء، قد يهدينا لعمقها ولب حكاياتها، والتغلغل أكثر في مضاربها، والاغتراف من القصص واللحظات الحميمية التي تبوح لنا بها. وفي رحلتنا وبعد تركنا للدليل الدرويش، مررنا صدفة ب"حاسي المبروك"، وهو موضع كنت تواقا لرؤيته، فهو أصل لحكايات وذكريات تخص أسلافا وحاضرين، طالما رويت لي وكنت أتخيلها، ومتشوق لرؤية مسرحها.

مررت على المكان خاليا من ناسه، وأبطال قصصه ومن أحبهم وأحبوه، فلم يبقى من ذلك العهد القديم إلا بعض ملامحه الطبيعية والحاسي المقاوم والمنتظر لعودة من ارتووا منه، حبا وودا، وأتمنى أن لا يكون انتظار الحاسي- البئر- لأحبابه ك"انتظار اسحاق".

***

الصحراء لا تنقضي صدفها، ففي الحين الذي تظن أنك وحيدا وجماعتك في فضاء لا حدود له، وبينك مسافات شاسعة مع البشر، يخرج لك من رحم الصدفة عظيم الأخبار والمفاجأة.

وأثناء ذهابنا نحو إحدى وجهات الرحلة، وفي خضم البحث والتفكير في دليل، أعطتنا الصدفة خير دليل.

غمرتنا ونحن ننطلق من تندوجة ذات الكثبان البيضاء الوثيرة ومنطلق بعض الأحداث المهمة في تاريخ هذه الأرض، نفحة ندية من المكان الذي كنا ننوى التوجه له ودلتنا عليه- إن لم أقل قدم إلينا المكان نفسه-.

كانت النفحة هي لقاء دون ميعاد ولا اتصال مع رجل طيب يقطن تلك البقعة- أرض الشيخ المتصوف الزاهد- ويبث منها علمه وأخلاقه، وكنا نرنو للقائه، وهو أحد العلماء الذين خرجهم الشيخ المتصوف والزاهد الذي علم دليلنا الدرويش وأخرجه من غياهب الجهل، وتم اللقاء بالرجل الطيب قبل لقاء الدرويش الثائر، حدث اللقاء، هكذا صدفة، كحكايات الصحراء الأسطورية.

***

غادرت تلك الأرض المباركة والملهمة عائدا إلى نواكشوط، بعد أن صافحت صدفة وقصدا، بعض بقاعها؛ كتيدأملين وتامرزكيت وعين السلامة وتندازبير وبئر العافية، وعلقت في ذهني تفاصيل ومشاهد أخرى-قد أحكيها ذات يوم- وأسئلة عديدة.

غادرت على نية العودة المتأنية، لأغوص في بحار تلك الصحراء عديمة السواحل، وأبحر في عوالم ناسها وحيواتهم وأساطيرهم الجميلة، وتاريخها ومن صنعوا القيم فيها، وشخوصها الباقية في الأذهان رغم الغياب وتقلبات الزمن.