السبت، 8 يناير 2022

البشير في ذمة الله.. ومضات من حياته



مساء يوم الجمعة 21 ديسمبر، 2018، تجمع جمع من الأطباء وعمال قطاع الصحة في فناء فندق مرحبا( أزلاي)، في مشهد مهيب وبهي وزاخر بالمحبة والعرفان، وبدأ الجمع يتبارى في البوح بما يعرفون عن الدكتور عبد الرحمن(البشير) ولد عبد الله(دداه) ولد الشيخ ولد جدو، زميلهم الذي قرروا أن يكرموه بمناسبة تقاعده، فهو أحد الأسماء المكرسة في مجاله ومن ألمع كوادر القطاع الصحي في البلاد؛ هذا ما قالوه آنذاك، حيث خدم الدولة عبر القطاع الصحي، فبدأ مشواره في الوظيفة العمومية، سنة 1990، كطبيب في بقاع مختلفة من البلاد ثم إداري محنك ومخضرم، فقد تقلد مناصب إدارية متعددة، مثل إدارة الشؤون الاجتماعية والصحة القاعدية، ويعتبر مرجعا للكثير من المنظمات الدولية وهو خريج الجامعات المغربية، ويعد أحد أيقونات وزارة الصحة حسب وزير الصحة كان بو بكر، الذي أكد على أن ما حدث فريد، فلم يسبق ونظم وداع لموظف في الوزارة بهذه الطريقة المهيبة، وهو نتاج ودليل على تميز واستثنائية ولد جدو، ووصفه بذاكرة وزارة الصحة، وذلك أثناء كلمته في تلك المناسبة، وحضر الوزير مع تشكيلة متنوعة من أطر الوزارة والعاملين في القطاع الصحي في موريتانيا وممثلين عن بعض المنظمات الدولية، وكنت حاضرا بدعوة منه بصفتي ابن أخته، كرموا البشير لأنهم عرفوه طبيبًا وإداريًا فذًا وكنت أنا استكشف جانبا آخر من شخصيته الثرية.. جانبه العملي.. فلا أملك عنه غير رؤوس أقلام.
كانوا يكرمونه وبدا لي الأمر وكأنه تأبين سابق لأوانه، فالشهادات التي خرجت من حناجرهم والمحملة بالإعجاب الباذخ لا نسمع مثلها في أرضنا إلا بعد الفناء وفي التعازي..
انتهى الحفل ليزداد إعجابي بالرجل رغم أن ما قالوه لم يكن مستغربا عندي وهو الطبيعي، فهو يؤدي عمله وواجبه في النهاية، وأنا أظنه من المخلصين فيما يفعل، فتلك أهم خصاله في جوانب حياته التي أعرف، وتقاعد الدكتور عبد الرحمن وقتها من الوظيفة العمومية ولم يتوقف عن البذل والعطاء، فعمل مع منظمات دولية كخبير واستشاري، فالحياة بالنسبة للبشير هي رحلة عطاء حتى آخر رمق، وكان يكافح دوما لتقديم الصورة الأنصع للتكنوقراط الماهر والنزيه.
***
فجر يوم الأحد 24، أكتوبر، 2021، استيقظت على خبر وفاة الخال البشير، وفقد أحب الناس إلى والدتي"كرعتها من الدنيا"، كما قالت، فهو ليس مجرد شقيق لها بل صديق وزميل كدح معرفي وتوأم روح، تكبره في العمر قليلا لكنه توأمها، ذلك ما أشعر به حين أتأمل حالهما.
توفي الخال المحبوب المحب، عن 63عاما، لأبدأ باكتشافات جديدة عنه وتوغل أعمق في شخصيته، وظهرت شهادات وقصص لم أكن على علم بها، ليتجلى الخال في صورة المنفق والمحسن بالعمل والمال والوقت، في كل سرية.. وبالطبع كنت أعرف كرمه وبذله في نطاق الأسرة فهو مصدر الاطمئنان فيها وفي مجتمعه الضيق، وأعرف أنه يفعل ذلك دون أي صخب مثل حاله مع عمله، حيث يحب التواري عن الأضواء ويمقت الرياء ويفضل القيام بما يظنه عليه في صمت عجيب، وما اكتشفته هو اتساع دائرة فعله المكتوم والذي فاح شذاه المبارك بعد الوفاة، فالأحاديث تواترت عن فعله للخير في الخفاء.
ومع كل شهادة يقدمها من سبق وأحسن لهم، وهم كثر حسب ما لمست، أتذكر آخر جلسة جمعتني به، حيث قال لي:"من وجد فرصة لفعل معروف وخير لغيره فليقم به دون تفكير ولا انتظار للجزاء، فذلك ما ينبغي".
ويبدو أن ذلك كان نهجه في حياته، فطوال أيام التعزية، كانت تظهر بشكل جميل حكايات عن فعل الراجل للخير، حكايات لها أبطال من بقاع مختلفة من البلاد، ومن خلال التعزية، تأكدت عندي تصورات بنيتها حوله، فكانت محل اتفاق من من قدم وعزى فيه، فهو صادق مع نفسه، لا يلتزم إلا بما يمكنه فعله ولا يقول إلا ما هو مقتنع به، هذا ما وصفه به صديق له، وأظنه أنا أيضا.
وقال عنه صديقه الدكتور ووزير الصحة السابق، نذيرُ ولد حامد:"عبد الرحمن صديق مقرب ونكاد نكون دخلنا الوظيفة العمومية بشكل متزامن، وطوال مسيرته كان مثالا للاستقامة واتقان العمل ولا يوراب في قول الحق، ومعرف عنه بين مدراء وزارة الصحةً كونه يقول كلمة الحق دون إي مجاملة، ولأي كان".
وقال آخر هو متقن لعمله ورمز لكل القيم النبيلة ومستقيم في حياته، وفي حالة من البكاء الشديد، وصفه زميل له في الوزارة، وقال:" عملت تحت إدارته زمنا طويلا ولم يسيء إلي ولم يوبخني ولم يقابلني بغير البشاشة مهما أخطأت"، وقالت إحدى زميلاته، نحن العمال الضعاف في الوزارة لم نجد مثل عبد الرحمن فائدة علينا ومناصرة لنا.
ونعته المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين التي كان يتجهز للذهاب في مهمة لها إلى مخيم أمبرة للاجئين الأزواديين، غير أن الوفاة حالت دون ذلك، وتأسفت لفقده وأثنت عليه في برقية سلمها وفد من المنظمة إلى أسرته، وكذلك فعل المستشفى الوطني الذي سبق ومر به خلال عمله، حيث جاء في تعزيته:" أفنى أربعة عقود من عمره، خدمة للوطن من خلال مساهماته الجليلة في رسم سياسات صحية واضحة المعالم ومشاركته في بناء منظومة صحية متكاملة وتقديمه للاستشارات".
وقال وزير الصحة الحالي في تعزيته فيه:"على طول مسار حياته خدم المنظومة الصحية من مراكز مختلفة فترك بصمات مشهودة وخلف ذكرا طيبا لدى كل من عمل معهم ومن راجعوه، فكان اسم الدكتور عبد الرحمن ولد جدو مرادفا للطبيب الخلوق، والإداري النزيه، والمؤطر المستقيم، والخبير الضليع".
***
رحم الله البشير وأسكنه فسيح جناته وبارك في خلفه، وجزاه الله الجزاء الحسن، فكان نعم الخال والوالد الودود دون حاجة للكلام فما يسكن قلبه من محبة تضيق عنه كل الصيغ، وبشاشة وجهه تغني عن الكلمات، رحم الله من لم يتدخل فيما لا يعنيه ولم يحاول فرض وصاية على غيره ولم ينشغل بغير نفسه وتهذيبها وتزكيتها وصقلها من أي درن، ومن لم تشغله أحاديث الناس عن بعضهم البعض، ومن كان السعي في الخير هو طريقه وغادرت دنيانا الفانية وما يتعلق بها قلبه قبل أن يرحل عنها، فهو رجل ليس من عالمنا فقد فنى فعلا في الله، ذلك ظني، وكل ما غصت في عالمه زاد التقدير.
وخالص العزاء لأسرته الخاصة والعامة وكل من يعرفونه ويكنون له الود، ولوالدتي.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق