الخميس، 20 أكتوبر 2022

"ما دام المرء يذكر فلن ينسى مذكوره أبدا"... ذاكرة الفلسطيني الصامد



كنت قبل سنوات أجلس على شاطئ البحر الميت في الأردن أتأمله قبيل الدخول في عالمه وبرفقتي مواطن من فلسطين.. وبعد حديث قصير أشار بيده إلى الضفة المقابلة، وسألني إن كنت أعرف في أي بلد تقع، وقبل الجواب، قال لي بحسرة واشتياق: "هذه فلسطين".وبدأ يتحدث عن تلك الأرض وأشواقه للمكان وعن فلسطين، وهذا حال أغلب من أقابل من الفلسطينيين، حيث يحملون معهم قصتهم أينما حلوا وارتحلوا، فيبثون ذكرياتهم في فلسطين ويذكرون أرضهم ويتذكرون قصصهم، ويستوي في ذلك أهل الشتات وناس غزة والضفة وحتى من يقبعون تحت السيطرة المباشرة للكيان الصهيوني، وهؤلاء بالتحديد تحضر عندهم القضية بقوة وبنضارتها الأولى وهي مفاجئة للبعض، ولست منهم.. واليوم في حديث عابر مع صديقة فلسطينية من أهل الضفة، قالت لي حين سألتها عن الوضع: "كما هو متوقع في هذه الظروف نوع من الصدمة والقلق. ولكن هذه المرة نشعر بحالة مِن الفرح وسببها هو أن الذين احتلوا في 1948 وتم تجنيسهم أثبتوا أن 73 سنة من الاحتلال  لم تنجح في طمس هويتهم وانتمائهم لفلسطين"، مؤكدة خوفها عليهم من انتقام الكيان الصهيوني.واقع الإنسان الفلسطيني  في الداخل هذا مريح حقا ومثلج للصدر، فرغم المحاولات الصهيونية ما يزال سكان الداخل يرفضون الانسلاخ من هويتهم الأصلية ولا يرضخون لغطرسة الاحتلال، وما أحداث حي الشيخ الجراح إلا جزء من المشهد، وذكر وتذكر وتذكير بقصة فلسطين.وهي رسالة واضحة لمن يهرول نحو التطبيع ويروج للهوان كحل واقعي بأن أصحاب الشأن يرفضون ذلك ولا يَرَوْن فيه مصلحتهم.. وهم أدرى بشأنهم.. ورسالة أوضح لمن يعول على أن الزمن كفيل بسحق الرفض والغضب..  فحتى من يعيشون تحت سطوة الاحتلال وقوانينه وأوراقه كل هذا الزمن لم يستطيعوا أن يجدوا أنفسهم في دولة الاحتلال، لأنها دولة أبارتايد ولا ينفع معها الخطاب المروج لواقعيته، فالكيان المحتل تأسس على الظلم وبقي لحد الآن عليه ولا يمكن أن يستمر بدونه.وأصحاب القضية يعون ذلك ويرفضون النسيان والذوبان، ويتذكرون  قصتهم كل حين وكأنها أصبحت وردا يرافقهم ويعملون بقول الشيخ عبد الله:" من يريد أن يتذكر فليذكر فما دام المرء يذكر فلن ينسى مذكوره أبدا".وأهل فلسطين لم ينسوا مذكورتهم ولا قضيتهم رغم تعاقب السنين، فيذكرون العالم بها كلّما ظن البعض خفوتها إلى الأبد.وصدق غسان كنفاني حين قال إنهم نجحوا في إثبات أن شعبهم لا يمكن هزيمته أبدا، وتعليم كل شخص في هذا العالم أنهم أمة صغيرة وشجاعة ستقاتل حتى آخر قطرة دم.من أجل تحقيق العدالة لأنفسهم بعد أن فشل العالم في تقديمها لهم.

السبت، 8 يناير 2022

البشير في ذمة الله.. ومضات من حياته



مساء يوم الجمعة 21 ديسمبر، 2018، تجمع جمع من الأطباء وعمال قطاع الصحة في فناء فندق مرحبا( أزلاي)، في مشهد مهيب وبهي وزاخر بالمحبة والعرفان، وبدأ الجمع يتبارى في البوح بما يعرفون عن الدكتور عبد الرحمن(البشير) ولد عبد الله(دداه) ولد الشيخ ولد جدو، زميلهم الذي قرروا أن يكرموه بمناسبة تقاعده، فهو أحد الأسماء المكرسة في مجاله ومن ألمع كوادر القطاع الصحي في البلاد؛ هذا ما قالوه آنذاك، حيث خدم الدولة عبر القطاع الصحي، فبدأ مشواره في الوظيفة العمومية، سنة 1990، كطبيب في بقاع مختلفة من البلاد ثم إداري محنك ومخضرم، فقد تقلد مناصب إدارية متعددة، مثل إدارة الشؤون الاجتماعية والصحة القاعدية، ويعتبر مرجعا للكثير من المنظمات الدولية وهو خريج الجامعات المغربية، ويعد أحد أيقونات وزارة الصحة حسب وزير الصحة كان بو بكر، الذي أكد على أن ما حدث فريد، فلم يسبق ونظم وداع لموظف في الوزارة بهذه الطريقة المهيبة، وهو نتاج ودليل على تميز واستثنائية ولد جدو، ووصفه بذاكرة وزارة الصحة، وذلك أثناء كلمته في تلك المناسبة، وحضر الوزير مع تشكيلة متنوعة من أطر الوزارة والعاملين في القطاع الصحي في موريتانيا وممثلين عن بعض المنظمات الدولية، وكنت حاضرا بدعوة منه بصفتي ابن أخته، كرموا البشير لأنهم عرفوه طبيبًا وإداريًا فذًا وكنت أنا استكشف جانبا آخر من شخصيته الثرية.. جانبه العملي.. فلا أملك عنه غير رؤوس أقلام.
كانوا يكرمونه وبدا لي الأمر وكأنه تأبين سابق لأوانه، فالشهادات التي خرجت من حناجرهم والمحملة بالإعجاب الباذخ لا نسمع مثلها في أرضنا إلا بعد الفناء وفي التعازي..
انتهى الحفل ليزداد إعجابي بالرجل رغم أن ما قالوه لم يكن مستغربا عندي وهو الطبيعي، فهو يؤدي عمله وواجبه في النهاية، وأنا أظنه من المخلصين فيما يفعل، فتلك أهم خصاله في جوانب حياته التي أعرف، وتقاعد الدكتور عبد الرحمن وقتها من الوظيفة العمومية ولم يتوقف عن البذل والعطاء، فعمل مع منظمات دولية كخبير واستشاري، فالحياة بالنسبة للبشير هي رحلة عطاء حتى آخر رمق، وكان يكافح دوما لتقديم الصورة الأنصع للتكنوقراط الماهر والنزيه.
***
فجر يوم الأحد 24، أكتوبر، 2021، استيقظت على خبر وفاة الخال البشير، وفقد أحب الناس إلى والدتي"كرعتها من الدنيا"، كما قالت، فهو ليس مجرد شقيق لها بل صديق وزميل كدح معرفي وتوأم روح، تكبره في العمر قليلا لكنه توأمها، ذلك ما أشعر به حين أتأمل حالهما.
توفي الخال المحبوب المحب، عن 63عاما، لأبدأ باكتشافات جديدة عنه وتوغل أعمق في شخصيته، وظهرت شهادات وقصص لم أكن على علم بها، ليتجلى الخال في صورة المنفق والمحسن بالعمل والمال والوقت، في كل سرية.. وبالطبع كنت أعرف كرمه وبذله في نطاق الأسرة فهو مصدر الاطمئنان فيها وفي مجتمعه الضيق، وأعرف أنه يفعل ذلك دون أي صخب مثل حاله مع عمله، حيث يحب التواري عن الأضواء ويمقت الرياء ويفضل القيام بما يظنه عليه في صمت عجيب، وما اكتشفته هو اتساع دائرة فعله المكتوم والذي فاح شذاه المبارك بعد الوفاة، فالأحاديث تواترت عن فعله للخير في الخفاء.
ومع كل شهادة يقدمها من سبق وأحسن لهم، وهم كثر حسب ما لمست، أتذكر آخر جلسة جمعتني به، حيث قال لي:"من وجد فرصة لفعل معروف وخير لغيره فليقم به دون تفكير ولا انتظار للجزاء، فذلك ما ينبغي".
ويبدو أن ذلك كان نهجه في حياته، فطوال أيام التعزية، كانت تظهر بشكل جميل حكايات عن فعل الراجل للخير، حكايات لها أبطال من بقاع مختلفة من البلاد، ومن خلال التعزية، تأكدت عندي تصورات بنيتها حوله، فكانت محل اتفاق من من قدم وعزى فيه، فهو صادق مع نفسه، لا يلتزم إلا بما يمكنه فعله ولا يقول إلا ما هو مقتنع به، هذا ما وصفه به صديق له، وأظنه أنا أيضا.
وقال عنه صديقه الدكتور ووزير الصحة السابق، نذيرُ ولد حامد:"عبد الرحمن صديق مقرب ونكاد نكون دخلنا الوظيفة العمومية بشكل متزامن، وطوال مسيرته كان مثالا للاستقامة واتقان العمل ولا يوراب في قول الحق، ومعرف عنه بين مدراء وزارة الصحةً كونه يقول كلمة الحق دون إي مجاملة، ولأي كان".
وقال آخر هو متقن لعمله ورمز لكل القيم النبيلة ومستقيم في حياته، وفي حالة من البكاء الشديد، وصفه زميل له في الوزارة، وقال:" عملت تحت إدارته زمنا طويلا ولم يسيء إلي ولم يوبخني ولم يقابلني بغير البشاشة مهما أخطأت"، وقالت إحدى زميلاته، نحن العمال الضعاف في الوزارة لم نجد مثل عبد الرحمن فائدة علينا ومناصرة لنا.
ونعته المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين التي كان يتجهز للذهاب في مهمة لها إلى مخيم أمبرة للاجئين الأزواديين، غير أن الوفاة حالت دون ذلك، وتأسفت لفقده وأثنت عليه في برقية سلمها وفد من المنظمة إلى أسرته، وكذلك فعل المستشفى الوطني الذي سبق ومر به خلال عمله، حيث جاء في تعزيته:" أفنى أربعة عقود من عمره، خدمة للوطن من خلال مساهماته الجليلة في رسم سياسات صحية واضحة المعالم ومشاركته في بناء منظومة صحية متكاملة وتقديمه للاستشارات".
وقال وزير الصحة الحالي في تعزيته فيه:"على طول مسار حياته خدم المنظومة الصحية من مراكز مختلفة فترك بصمات مشهودة وخلف ذكرا طيبا لدى كل من عمل معهم ومن راجعوه، فكان اسم الدكتور عبد الرحمن ولد جدو مرادفا للطبيب الخلوق، والإداري النزيه، والمؤطر المستقيم، والخبير الضليع".
***
رحم الله البشير وأسكنه فسيح جناته وبارك في خلفه، وجزاه الله الجزاء الحسن، فكان نعم الخال والوالد الودود دون حاجة للكلام فما يسكن قلبه من محبة تضيق عنه كل الصيغ، وبشاشة وجهه تغني عن الكلمات، رحم الله من لم يتدخل فيما لا يعنيه ولم يحاول فرض وصاية على غيره ولم ينشغل بغير نفسه وتهذيبها وتزكيتها وصقلها من أي درن، ومن لم تشغله أحاديث الناس عن بعضهم البعض، ومن كان السعي في الخير هو طريقه وغادرت دنيانا الفانية وما يتعلق بها قلبه قبل أن يرحل عنها، فهو رجل ليس من عالمنا فقد فنى فعلا في الله، ذلك ظني، وكل ما غصت في عالمه زاد التقدير.
وخالص العزاء لأسرته الخاصة والعامة وكل من يعرفونه ويكنون له الود، ولوالدتي.

الجمعة، 31 يوليو 2020

المومنة في مسار أحمد كلي


حافظة صغيرة للكحل من زمن ما قبل الدولة تملكها جدتي الكبرى المومنة منت سيدي ولد ألمين، حافظة أنيقة ومرتبة مرت عليها كل تلك السنين وماتزال على أفضل حال، وأغراض أخرى، كانت كافية لترجعني إلى الوراء سنوات، وأتأمل في تلك الحقبة وأستدعي الأسئلة عن تلك السيدة وكيف كان أهل دهرها يعيشون، والخلاصة؛ كانت فيما يبدو سيدة استثنائية، وصنعت لنفسها مكانا مهما في أرض لم تولد فيها ولم تعش فيها، بل أتتها كزوجة لأحد رجال المنطقة، هو جدي أحمد ولد الشيخ ولد جدو.
لم أملك تفاصيل كثيرة عنها، وخاصة من الأهل، فهم قرروا منذ زمن طويل تبني فلسفة في الحياة، تجعلهم يرون أن الحكايات ملك لأصحابها وتعنيهم فقط، ولا يخوضون في غير الحاضر ولا تهمهم كثيرا قصص الأولين، وحتى الكتابة عن شأنهم غير مستحبة عندهم، فلا يحبون الحديث عن ذواتهم ويفضلون أن يمر الإنسان في هذا العالم دون صخب.. يقوم بما عليه وليس من الضروري أن يحدث صخبا، بل من المحبب أن لا يكون لافتًا للانتباه.
وأنا أشاطرهم هذا الرأي بعض الشيء، فحياة الناس ملك لهم ومن لم يكتب عن نفسه قد يكون من التجني أن يكتب عنه؛ هذا مع ظني في نفس الوقت أن حجب القصص والأحداث التاريخية، قد يكون أنانية، فالتجارب البشرية مفيدة للإنسان وتشاركها قد تكون فيه مصلحة، وكثير من القصص تمثل مناجم زاخرة بكنوز الحكمة. والحجب غير ممكن أصلا.. وأعتقد أنك إن لم تكتب كتب عنك.
وحدث وأُقترِفت فعلة الكتابة، لكنه اقتراف جميل، ولم يكتب عن الأسرة من طرف "الغريب" بل يبدو أن الأهل قرروا الكتابة، فحوت مذكرات المحامي والسياسي أحمد كلي ولد الشيخ سيدي، بعضا من قصص الأسرة، كتبت بحب ومن منظور ذاتي، فهو في النهاية يكتب عن أهله.
تحدث عن المومنة.. وعن زيارته لها مع جدته التي لا تكثر الحركة ولا تزور غالبا إلا أسرتنا، وعن غبطته وسروره بتلك الزيارات التي يصنع فيها الشاي ويحصل هو على قطع السكر، وعن كونها أما للكل، خاصة أبناء باب ولد الشيخ سيدي فهي أرضعت جلهم، وعن هيأتها وحضورها أصلا لبوتلميت وسياقه وقصصه وزخم ذلك القدوم والمقام الطيب، وتأثيرها في حياة مجتمعها الجديد.
ذكرها أحمد كلي هي والأسرة بالكثير من المحبة والإعجاب، وتحدث عن علاقة المودة والمحبة التي ربطت أسرتينا؛ العلاقة الفريدة التي جعلت عبد الله ولد الشيخ، يتساءل أمامه، ويقول إنه:" يستغرب أنه رغم كل هذه المحبة التي بيننا وهذه الأسرة التي أحببناها بهذا الشكل لا تربط أي علاقة نسب بينها مع عائلتنا!؟"، وهي ملاحظة سجلها أحمد كلي ، وقال إنه لن ينساها.
وفي سياق تتبعه لتاريخ مدينة بوتلميت، أتى بقصص عن الشيخ ولد جدو، ودوره في إدارة شؤون الناس وعن وضعية الأسرة في النسيج المجتمعي للمدينة وحب جده عبد الله لهم.
كان يتحدث بود وكثير من التقدير، وسرد قصصا أخرى تؤرخ لحياة الناس في ذلك الزمن.. طبعت الطرافة بعضها.
سار بنا أحمد كلي عبر آلة الزمن في رحلة شيقة وماتعة وعاد بنا إلى طفولته وسرد قصصا عنها، وتحدث عن نظرته لواقعه وعن جده وملهمه، وأناس عايشهم وأحبهم، ورماني في بحر ذكرياته، لتكون تلك إشارة جديدة كالحافظة، لأتعرف على تلك العوالم.. خاصة العائلي منها، فأنا لم أكترث يوما لتفاصيلهم ولا لحكاياتهم.. وسبق وسألني أستاذ جليل عن أحد شخصيات الأسرة والروابط الجينيالوجية بيني وبينه فاستعنت بصديق من خارج الأسرة الضيقة ليمدني ببعض المعلومات عن العائلة، فوقتها لا أعرف إلا من أدركته حيا منهم.

الجمعة، 31 مايو 2019

في التضامن ورفض الظلم




قام بتحيتنا وخاطبنا قائلا: "مهلا، هل يمكنني أن أتطفل على حديثكم هذا؟"، وبعد استئذانه وموافقتنا تابع كلامه وقال:" هل أنتم من أهل هذه الأرض وتسكنونها؟"، تساءل بنبرة مشحونة بالسخرية والأسى، فجاوبه أحدنا بنعم، فرد هو قائلا:" سبب سؤالي واقتحام حديثكم، هو أنني سمعتكم تتحدثون عن القانون وتحاولون نقاش تطورات قضيتكم والاجراءات القانونية، وهو حديث غير مناسب في بلدنا، فلا قانون هنا إلا قانون الغاب".
كان متعبا وحانقا وصادقا، وكان اليوم أحد أيام الظلم الكثيرة في أرضنا والمكان أمام "قصر العدل"، حيث تم فيه عرض القانوني الشيخ ولد جدو والناشط السياسي عبد الرحمن ودادي على وكيل الجمهورية الذي أحالهما إلى قاضي التحقيق مع طلب إيداعهما في السجن، وكما كان متوقعا، نفذ قاضي التحقيق ذلك الطلب الظالم، وأمر بحبسهما في سجن دار النعيم( تم تحويلهما لاحقا).
كان التكييف مهلهلا والتهمة مستحيلة ومضحكة، فتهمة الافتراء دون شاكي تثير الغثيان، وتحويل شاهد في قضية إلى متهم أمر من أسباب البلاء، وقرار الحبس الاحتياطي دون تحقق شروطه جائر وظالم.
تركنا الرجل بعد أن قذف ما في صدره وجوفه ونفسه من غضب، وعرف طبيعة القضية، وقال:" هذا هو الظلم الطبيعي في أرضنا" وأكد:" أنا كتبت في هذه القضية ولم يسلم أحد من تناولها وتصديقها، فلماذا هما فقط؟، إنه رأس السلطة ينتقم".
غادرنا وقد صدق توقعه، وطبق "قانون لتفتار"، وكنت أقاسمه تحليله بالطبع، وأعتقد أن جل من يراجعون العدالة يقاسمونه نفس الرأي في قضائنا.
***
مضت الأيام وتحققت كل الهواجس والمخاوف والتوقعات التي كانت تخالجني، فكان في ذهني، مسار قضايا أخرى واستخدام النظام الغاصب لأرضنا للحبس الاحتياطي لقمع من يزعجه، ووضعه في السجن دون محاكمة حتى يقرر أن يطلق سراحه، وكان محمد ولد غده نموذجا صارخا لا يغادر مخيلتي، وتحقق الأمر، وأصبح عبد الرحمن والشيخ هما ولد غده الجديد، وصار ولد غدة الذي ذاق مرارة الظلم، مناصرا في قضيتهما فلا يفوت وقفة لمؤازرتهما ويحضر بحماس ودون تكلف، فمن خبر الظلم والترك والخذلان يعرف قيمة التضامن ورفض ظلم أي كان، فالساكت عن ظلم يمر أمام عينه هو موقع على ظلمه اللاحق، وقد ساهم بصمته في تشريع ظلم وتغول الظلم والظالم في أرضه، وكنت كلما نظرت لولد غده وهو يتخذ مكانه خلف لافتة من اللافتات المطالبة بالحرية للشيخ وبحام، أتساءل من التالي؟.
ومتى سنفهم أن دائرة الظلم تدور بتسارع عجيب وتسحق الكل وأننا نتضامن مع أنفسنا قبل كل شيء؟
***
تذكرت قصة الرجل الغاضب أمام العدالة، لكونها تمثل بشكل واضح نظرة الكثير من المواطنين لقطاع العدالة، وأنا منهم، وهي نظرة مقلقة لكن الواقع أسس لها، فما دامت السلطة التنفيذية تفرض سيطرتها على السلطة القضائية فلا معنى للحديث عن قضاء مستقل، وما دامت النيابة العامة تستعبد قضاة التحقيق وهي مسترقة من وزير العدل عضو السلطة التنفيذية، فمضحك جدا الحديث عن الثقة في القضاء.
وهو واقع مزري آن لنا الوقوف ضده، حتى لا نتحول لمجرد أرقام في سجل مكتظ بضحايا الحبس الاحتياطي المزاجي، لأننا قلنا لمن سرقنا أنه سارق ومارق، وعلى العموم وقبل تحقق واقع أفضل، سنظل نكرر أنك يا عزيز ورهطك مجموعة من السراق، ولنكن عبد الرحمن أو الشيخ أو ولد غده، لا يهم.

الأحد، 21 أكتوبر 2018

نحو بلاد الباوباب، سرت



"انظروا إلى المباني الشاهقة والجذابة، وللطريق السريع والرحب والمرحب، لقد دخلنا داكار". قالها بابتهاج تنغصه حسرة وغصة وغضب وكمد، وترك لسانه كالشلال المنسكب بقوة، يمجد اللحظة ويجلد الذات. وهو المريض الباحث عن علاج لم يجده في وطنه.
وتبعه في ذلك بقية ركاب الحافلة القادمة من نواكشوط، عاصمة الشحوب الأزلي، المدينة التي لا تشبه المدن، ولم يبدأ ذلك الحديث والشعور عند ولوج دكار بل منذ عبورنا عن طريق سد "دياما" ودخولنا الأراضي السنغالية، وكان يتعمق كلما توغلنا جنوبا، حيث توقفت عبثية الطريق وعذاباتها، ففي السنغال طرق لا ترصعها الحفر، وأعدت لتنقل البشر وليس للتدريب على المسالك الوعرة والفاتكة، وطوال الرحلة، كانت المقارنات بين ضفتي نهرنا، الجنوبية والشمالية، تسيطر على أحاديث الركاب، وهم قوم من مشارب شتى.
وأكثر جملة ترددت على الألسن، هي:" ليس لديهم غير الفول السوداني والبقوليات وحالهم أفضل منا نحن ملاك الذهب والحديد والسمك وأشياء أخرى".
ورغم محاولات البعض التخفيف على نفسه بالقول أن السنغاليين يطلبون الصدقات لبناء دولتهم، لكنهم يتذكرون أن موريتانيا دولة مسكينة، باحثة عن "الصدقات"، لكن حكامها يلتهمون كل شيء، الثروات والصدقات، فيشتد الأنين والسخط.
***
حين خرجنا من نواكشوط وتقدمنا قليلا في الطريق، بدأت حكايتنا مع البؤس تستفحل، فلا شيء هناك يذكر بغيرالفناء البشع والذبول، وكل متر نقطعه كان يصدق ويصادق على ما جاء في الوثائقي الجزيري المعنون بالطريق إلى داكار، الذي أغضب قبل أشهر "أنبياء" "شعب الله المختار" وجماعات وطنية تمجيد البؤس والفساد.
وظلت الحفر والمطبات تنكل بنا طوال ما كان يطلق عليه "طريق روصو"( رحمه الله وغفر له)، ولم يتوقف ذلك الهم، إلا عند وصولنا لمنعرج كرمسين، حيث بدأ ما يشبه الطريق وبدأت ملامح جمالية تتسلل لرحلتنا، وخفت مظاهر البؤس الموحش، وأصبحت الطبيعة الجميلة ترطبنا؛ بدأت الحياة هناك في أرض الخنازير البرية( عرات)، وحين دخلنا حظيرة جاولينغ، ازدانت اللوحة، ونسينا أن الطريق غير معبد، فقد خطفنا الخضار والحياة البرية البهية، والتربص بعائلات عرات( الخنازير البرية) والزواحف البحرية والتماسيح والطيور الجميلة، وتفاصيل تلك الحياة البديعة والبكر، فلم يسحقها البشر بعد.

وعند وصولنا للحدود الوهمية، لاحظت ما كنت أسمع من قبل، أن الناس هناك، مختلفون ويصعب عليك التمييز بينهم، فالقوم متجانسون وتحضر الحسانية والولفية في ألسنتهم بشكل متقارب، مزيج جميل، لمسته في شمال الأرض وحتى جنوبها، فسائق الحافلة التي نقلتنا من الحدود لعاصمة جنوبنا، داكار، سنغالي الجنسية وينحدر من مدينة سنغالية، غير بعيدة من موريتانيا، لكنه يتحدث الحسانية بطلاقة ولو سار في شوارع نواكشوط لن يلفت أي انتباه.
***
تمثال نهضة افريقيا

كانت توقعاتي لداكار أفضل مما رأيت، فكنت أظنه في مستوى " نيروبي" أو مثيلاتها من عواصم إفريقيا الجميلة، فلم أزره من قبل، ولم أره إلا من خلال الطائرة ذات عبور قصير. وفيما يبدو أن مدننا نحن سكان الغرب الإفريقي، لا تنافس!، لكنه بالمقارنة بعاصمتنا الشبحية، يعتبر مدينة مزدهرة ومبهرة، كأنه باريس.
داكار مدينة حيوية، فيها نقل عام معقول وأنشطة ثقافية ورياضية تغازل عيونك إعلاناتها أينما حللت، وساحات عمومية جميلة ومناطق خضراء لطيفة، كالسنغال عموما، ومسارح وشوارع وشواطئ معدة( رغم التلوث والأوساخ) للحياة، وأكثر ما جذبني في المدينة ولم يخيب ظني، هو تمثال نهضة إفريقيا، فهو صرح مهيب وفيه إبداع فريد؛ ومنطقته بديعة، ترى منها داكار والمحيط الأطلسي في اشراق وهناء.
وهو مشروع ضخم بني بإشراف كوري شمالي وأثار وقت تشييده الكثير من اللغط والرفض، وقد أتفق مع من يقول أن بلدا فقيرا له أولويات تنموية أهم من أمثال تلك الصروح والنصب التذكارية، لكنه جميل ومهيب وقد أسرني، كأشجار الباوباب السنغالية العتيقة والفارعة.
دكار عاصمة لدولة علمانية، وفعلا يرى المار مؤشرات لذلك في الفضاءات العامة والأسواق والمحلات، لكنني لاحظت حضورا طاغيا لمشايخ التصوف والمرجعيات الدينية، ففي كل ركن أو حانوت وحتى باص أو تاكسي ترى صورة لأحدهم وأدعيتهم؛ يطاردونك كلما خرجت للشارع، وخفت أن يخرجوا إلي من حنفية المنزل، وحتى حضورهم في المشهد السياسي جلي وطاغي، وبين الناس كذلك، وحين قارنت وضعهم بوضع نظرائهم في" الجمهورية الإسلامية الموريتانية" وجدت أنهم أكثر حضورا في السنغال، فالزخم الذي يحصل عليه رجال الدين هناك لا يحصل على ربعه أصحابهم في موريتانيا، فجماعتنا مساكين كالصحافة والمثقفين، يتبعون العساكر ويستخدمونهم في نزواتهم وبطشهم لا أكثر، مع استثناءات قليلة. ولمست من جدران المدينة حنق على فرنسا، فشاهدت بعض الغرافيتي الغاضب من الهيمنة الفرنسية على السنغال.
وفي السنغال، لاحظت أن هناك نوعا من التعامل السمح مع الموريتانيين، فالطلاب هناك بل المقيمين لا تفرض عليهم رسوم للإقامة، عكس السنغاليين في موريتانيا، الذين يعانون من رسوم الإقامة ويتعرضون للتوقيف الليلي والتنكيل بسببها.

الأحد، 16 سبتمبر 2018

عن مكان يحب المطر

الصورة من حساب الصديق  @Sirius_MR على تويتر


تناهى لسمعي أن السماء أكرمت مدينة بوتلميت بقدر وفير من عرقها المبارك والرحيم، فوصل تقدير البشر لتلك النفحة الغزيرة والمرطبة، ب61 ملم.
حدث هذا بعد سنوات من القحط والجدب والحرمان، وبعد دهر من الفتور بين سماء وأرض المدينة المخذولة.
***
أعادتني أخبار المطر الطيب، لأيام كانت السماء تحب تلك الأرض وتكرمها بالمطر الجزيل، فلا أتذكر أن السماء غمرت المدينة في العشرية الأخيرة، بمثل هذا العطف، فحرمان المدينة قديم.
و ذكرني هذا التهاطل الكثيف، بهطول للمطر حدث أيام طفولتي، أعرفه باسم لن أذكره لدواعي حقوقية وذوقية، ورغم أنه جمل المدينة وخضر نواحيها وبث فيها الحياة، إلا أنه ترك ذكرى حزينة، وهي وفاة شابة بسبب المطر، تقول إحدى الحكايات الشعبية التي استوطنت ذهني، أنها غرقت في بئر مطمور كشف عنه المطر، ولا أعرف إن كانت تلك القصة حقيقية.
وسبق ذلك التهاطل ملحمة من الرعود المزلزلة؛ لا يزال صداها في أذني.. فكنت أتخيلها صهاريجا عملاقة ترمى على طريق الأمل من مكان شاهق العلو، وبروقا لا يفارق مخيلتي بريقها.
وتبعها اخضرار بهيج، فحتى "حوش" منزلنا في "الكود"، أصبح مكانا زراعيا لطيفا، فلا أزال أتذكر سنابل تلك السنة وأوراق الفول السوداني والطماطم التي نبتت فيه دون جهد كبير.
***
المطر أيام طفولتي، كان يعني البحث عن البرك النظيفة، البرك الصالحة للسباحة، كان هو الذهاب للنطفية الشرقية والساحلية وأي مظان للماء، وهو الركض نحو الكثبان الشاهقة للتزلج عليها ب"السيالات".. كان هو " علب بكل" وما يجاوره من كثبان بديعة، و"العلب الساحلي" وأي مكان يسمح بأن تتلون ثيابي باللون الذهبي الآسر.
كان المطر هو السير دون كلل ولا ملل نحو ضواحي بوتلميت للبحث عن "آتيل" وقطف "لمساويك"؛ كان التشرد الجميل والبوهيمية الحقة والسمحة.
***
اغتسلت المدينة التي تحب المطر إذن، وارتوت بعد عطش فاتك، فهل يلي ذلك اغتسال أعمق من أدران التزوير والظلم؟ أتمنى.

الثلاثاء، 27 فبراير 2018

رحلة إلى أرض الكثبان البيضاء

منظر من منطقة تندوجة

توقفنا عند مرتفع رملي باهر البياض، فريد الجمال، وأسفله سهل فسيح، خلاب ومريح للعين، تجاوره بعض من أشجار الطلح وتيشط وآتيل، قد تساقطت أوراقها لكنها ظلت شامخة، تنتظر عناق المطر الحرون، وتتناثر قربه شجيرات من تيتارك وأم ركبة، في مشهد بديع يميز أرض آوكار وآمشتيل، تلك البقاع الرائقة حتى أيام القحط والجدب، فالسماء والهواء والكثبان الرملية النظيفة ذات الملمس الحريري المداعب للأجساد- جعلتني تلك الكثبان أحرف كلام إبراهيم الكوني، وأقول: لن يذوق طعم الحياة مَن لم يتنفس هواء الكثبان-، تجلب السكينة والحبور، ففي تلك الصحراء الواسعة، تناغم ونقاء أخاذ وداهش، فصباحها المنعش وشروق شمسها المبهج و غروبها الآسر وليلها الساحر ونجوم السماء الوضاءة، يهذبون ويمتعون الروح.

توقفنا ونحن في حالة ضياع نصفي أو لا أدرية وشك، وعند النزول للسهل، قابلنا أحد الرعاة يرافق قطيعا من الغنم، فسألناه عن وجهتنا؛ فدلنا على الطريق، وبعد أن تقدمنا عنه اكتشفنا أنه إحدى تجليات المعنى الصحراوي، فالرجل حكاية تحرر من قيد العبودية والجهل، فقد تعرف عليه أحد رفاق الرحلة.

وحكى لنا قصته، حيث كان ذات يوم ضحية استعباد، وفي أحد أيام العبودية الميلودرامية، كتب له من كان يستعبده في ورقة" أنت عبد جاهل"، وبما أنه لم يكن باستطاعته القراءة، استعان بشخص ليفسر له المكتوب. آلمت الجملة البغيضة صاحبنا أيما ألم، وبعدها، قرر الثورة وتغيير ذلك الواقع الظالم، وفك القيد ورفض الذل. ثابر وقاوم حتى" افتدى" نفسه من مستعبده الغاشم، وانتقل إلى شيخ زاهد في حطام الدنيا وصراعات أهلها، مبتعد عن المدينة؛ فكلما اقتربت منه رحل بعيدا ناشدا المزيد من النقاء.

وعند هذا الشيخ تعلم دليلنا الدرويش الثائر القرآن وأخذ الإجازة، وأصبح حرا كما يليق بأبناء الصحراء، فالصحراء هي الحرية ومبعثها، واليوم يملك قطيعا من الغنم، يعيش منه هو وزوجته، ويذهل الناس بترتيله للقرآن؛ فصوته جميل ومرطب للروح.

***

الضياع في الصحراء، قد يهدينا لعمقها ولب حكاياتها، والتغلغل أكثر في مضاربها، والاغتراف من القصص واللحظات الحميمية التي تبوح لنا بها. وفي رحلتنا وبعد تركنا للدليل الدرويش، مررنا صدفة ب"حاسي المبروك"، وهو موضع كنت تواقا لرؤيته، فهو أصل لحكايات وذكريات تخص أسلافا وحاضرين، طالما رويت لي وكنت أتخيلها، ومتشوق لرؤية مسرحها.

مررت على المكان خاليا من ناسه، وأبطال قصصه ومن أحبهم وأحبوه، فلم يبقى من ذلك العهد القديم إلا بعض ملامحه الطبيعية والحاسي المقاوم والمنتظر لعودة من ارتووا منه، حبا وودا، وأتمنى أن لا يكون انتظار الحاسي- البئر- لأحبابه ك"انتظار اسحاق".

***

الصحراء لا تنقضي صدفها، ففي الحين الذي تظن أنك وحيدا وجماعتك في فضاء لا حدود له، وبينك مسافات شاسعة مع البشر، يخرج لك من رحم الصدفة عظيم الأخبار والمفاجأة.

وأثناء ذهابنا نحو إحدى وجهات الرحلة، وفي خضم البحث والتفكير في دليل، أعطتنا الصدفة خير دليل.

غمرتنا ونحن ننطلق من تندوجة ذات الكثبان البيضاء الوثيرة ومنطلق بعض الأحداث المهمة في تاريخ هذه الأرض، نفحة ندية من المكان الذي كنا ننوى التوجه له ودلتنا عليه- إن لم أقل قدم إلينا المكان نفسه-.

كانت النفحة هي لقاء دون ميعاد ولا اتصال مع رجل طيب يقطن تلك البقعة- أرض الشيخ المتصوف الزاهد- ويبث منها علمه وأخلاقه، وكنا نرنو للقائه، وهو أحد العلماء الذين خرجهم الشيخ المتصوف والزاهد الذي علم دليلنا الدرويش وأخرجه من غياهب الجهل، وتم اللقاء بالرجل الطيب قبل لقاء الدرويش الثائر، حدث اللقاء، هكذا صدفة، كحكايات الصحراء الأسطورية.

***

غادرت تلك الأرض المباركة والملهمة عائدا إلى نواكشوط، بعد أن صافحت صدفة وقصدا، بعض بقاعها؛ كتيدأملين وتامرزكيت وعين السلامة وتندازبير وبئر العافية، وعلقت في ذهني تفاصيل ومشاهد أخرى-قد أحكيها ذات يوم- وأسئلة عديدة.

غادرت على نية العودة المتأنية، لأغوص في بحار تلك الصحراء عديمة السواحل، وأبحر في عوالم ناسها وحيواتهم وأساطيرهم الجميلة، وتاريخها ومن صنعوا القيم فيها، وشخوصها الباقية في الأذهان رغم الغياب وتقلبات الزمن.