حافظة صغيرة للكحل من زمن ما قبل الدولة تملكها جدتي الكبرى المومنة منت سيدي ولد ألمين، حافظة أنيقة ومرتبة مرت عليها كل تلك السنين وماتزال على أفضل حال، وأغراض أخرى، كانت كافية لترجعني إلى الوراء سنوات، وأتأمل في تلك الحقبة وأستدعي الأسئلة عن تلك السيدة وكيف كان أهل دهرها يعيشون، والخلاصة؛ كانت فيما يبدو سيدة استثنائية، وصنعت لنفسها مكانا مهما في أرض لم تولد فيها ولم تعش فيها، بل أتتها كزوجة لأحد رجال المنطقة، هو جدي أحمد ولد الشيخ ولد جدو.
لم أملك تفاصيل كثيرة عنها، وخاصة من الأهل، فهم قرروا منذ زمن طويل تبني فلسفة في الحياة، تجعلهم يرون أن الحكايات ملك لأصحابها وتعنيهم فقط، ولا يخوضون في غير الحاضر ولا تهمهم كثيرا قصص الأولين، وحتى الكتابة عن شأنهم غير مستحبة عندهم، فلا يحبون الحديث عن ذواتهم ويفضلون أن يمر الإنسان في هذا العالم دون صخب.. يقوم بما عليه وليس من الضروري أن يحدث صخبا، بل من المحبب أن لا يكون لافتًا للانتباه.
وأنا أشاطرهم هذا الرأي بعض الشيء، فحياة الناس ملك لهم ومن لم يكتب عن نفسه قد يكون من التجني أن يكتب عنه؛ هذا مع ظني في نفس الوقت أن حجب القصص والأحداث التاريخية، قد يكون أنانية، فالتجارب البشرية مفيدة للإنسان وتشاركها قد تكون فيه مصلحة، وكثير من القصص تمثل مناجم زاخرة بكنوز الحكمة. والحجب غير ممكن أصلا.. وأعتقد أنك إن لم تكتب كتب عنك.
وحدث وأُقترِفت فعلة الكتابة، لكنه اقتراف جميل، ولم يكتب عن الأسرة من طرف "الغريب" بل يبدو أن الأهل قرروا الكتابة، فحوت مذكرات المحامي والسياسي أحمد كلي ولد الشيخ سيدي، بعضا من قصص الأسرة، كتبت بحب ومن منظور ذاتي، فهو في النهاية يكتب عن أهله.
تحدث عن المومنة.. وعن زيارته لها مع جدته التي لا تكثر الحركة ولا تزور غالبا إلا أسرتنا، وعن غبطته وسروره بتلك الزيارات التي يصنع فيها الشاي ويحصل هو على قطع السكر، وعن كونها أما للكل، خاصة أبناء باب ولد الشيخ سيدي فهي أرضعت جلهم، وعن هيأتها وحضورها أصلا لبوتلميت وسياقه وقصصه وزخم ذلك القدوم والمقام الطيب، وتأثيرها في حياة مجتمعها الجديد.
ذكرها أحمد كلي هي والأسرة بالكثير من المحبة والإعجاب، وتحدث عن علاقة المودة والمحبة التي ربطت أسرتينا؛ العلاقة الفريدة التي جعلت عبد الله ولد الشيخ، يتساءل أمامه، ويقول إنه:" يستغرب أنه رغم كل هذه المحبة التي بيننا وهذه الأسرة التي أحببناها بهذا الشكل لا تربط أي علاقة نسب بينها مع عائلتنا!؟"، وهي ملاحظة سجلها أحمد كلي ، وقال إنه لن ينساها.
وفي سياق تتبعه لتاريخ مدينة بوتلميت، أتى بقصص عن الشيخ ولد جدو، ودوره في إدارة شؤون الناس وعن وضعية الأسرة في النسيج المجتمعي للمدينة وحب جده عبد الله لهم.
كان يتحدث بود وكثير من التقدير، وسرد قصصا أخرى تؤرخ لحياة الناس في ذلك الزمن.. طبعت الطرافة بعضها.
سار بنا أحمد كلي عبر آلة الزمن في رحلة شيقة وماتعة وعاد بنا إلى طفولته وسرد قصصا عنها، وتحدث عن نظرته لواقعه وعن جده وملهمه، وأناس عايشهم وأحبهم، ورماني في بحر ذكرياته، لتكون تلك إشارة جديدة كالحافظة، لأتعرف على تلك العوالم.. خاصة العائلي منها، فأنا لم أكترث يوما لتفاصيلهم ولا لحكاياتهم.. وسبق وسألني أستاذ جليل عن أحد شخصيات الأسرة والروابط الجينيالوجية بيني وبينه فاستعنت بصديق من خارج الأسرة الضيقة ليمدني ببعض المعلومات عن العائلة، فوقتها لا أعرف إلا من أدركته حيا منهم.