قام بتحيتنا وخاطبنا قائلا: "مهلا، هل يمكنني أن أتطفل على حديثكم هذا؟"، وبعد استئذانه وموافقتنا تابع كلامه وقال:" هل أنتم من أهل هذه الأرض وتسكنونها؟"، تساءل بنبرة مشحونة بالسخرية والأسى، فجاوبه أحدنا بنعم، فرد هو قائلا:" سبب سؤالي واقتحام حديثكم، هو أنني سمعتكم تتحدثون عن القانون وتحاولون نقاش تطورات قضيتكم والاجراءات القانونية، وهو حديث غير مناسب في بلدنا، فلا قانون هنا إلا قانون الغاب".
كان متعبا وحانقا وصادقا، وكان اليوم أحد أيام الظلم الكثيرة في أرضنا والمكان أمام "قصر العدل"، حيث تم فيه عرض القانوني الشيخ ولد جدو والناشط السياسي عبد الرحمن ودادي على وكيل الجمهورية الذي أحالهما إلى قاضي التحقيق مع طلب إيداعهما في السجن، وكما كان متوقعا، نفذ قاضي التحقيق ذلك الطلب الظالم، وأمر بحبسهما في سجن دار النعيم( تم تحويلهما لاحقا).
كان التكييف مهلهلا والتهمة مستحيلة ومضحكة، فتهمة الافتراء دون شاكي تثير الغثيان، وتحويل شاهد في قضية إلى متهم أمر من أسباب البلاء، وقرار الحبس الاحتياطي دون تحقق شروطه جائر وظالم.
تركنا الرجل بعد أن قذف ما في صدره وجوفه ونفسه من غضب، وعرف طبيعة القضية، وقال:" هذا هو الظلم الطبيعي في أرضنا" وأكد:" أنا كتبت في هذه القضية ولم يسلم أحد من تناولها وتصديقها، فلماذا هما فقط؟، إنه رأس السلطة ينتقم".
غادرنا وقد صدق توقعه، وطبق "قانون لتفتار"، وكنت أقاسمه تحليله بالطبع، وأعتقد أن جل من يراجعون العدالة يقاسمونه نفس الرأي في قضائنا.
***
مضت الأيام وتحققت كل الهواجس والمخاوف والتوقعات التي كانت تخالجني، فكان في ذهني، مسار قضايا أخرى واستخدام النظام الغاصب لأرضنا للحبس الاحتياطي لقمع من يزعجه، ووضعه في السجن دون محاكمة حتى يقرر أن يطلق سراحه، وكان محمد ولد غده نموذجا صارخا لا يغادر مخيلتي، وتحقق الأمر، وأصبح عبد الرحمن والشيخ هما ولد غده الجديد، وصار ولد غدة الذي ذاق مرارة الظلم، مناصرا في قضيتهما فلا يفوت وقفة لمؤازرتهما ويحضر بحماس ودون تكلف، فمن خبر الظلم والترك والخذلان يعرف قيمة التضامن ورفض ظلم أي كان، فالساكت عن ظلم يمر أمام عينه هو موقع على ظلمه اللاحق، وقد ساهم بصمته في تشريع ظلم وتغول الظلم والظالم في أرضه، وكنت كلما نظرت لولد غده وهو يتخذ مكانه خلف لافتة من اللافتات المطالبة بالحرية للشيخ وبحام، أتساءل من التالي؟.
ومتى سنفهم أن دائرة الظلم تدور بتسارع عجيب وتسحق الكل وأننا نتضامن مع أنفسنا قبل كل شيء؟
***
تذكرت قصة الرجل الغاضب أمام العدالة، لكونها تمثل بشكل واضح نظرة الكثير من المواطنين لقطاع العدالة، وأنا منهم، وهي نظرة مقلقة لكن الواقع أسس لها، فما دامت السلطة التنفيذية تفرض سيطرتها على السلطة القضائية فلا معنى للحديث عن قضاء مستقل، وما دامت النيابة العامة تستعبد قضاة التحقيق وهي مسترقة من وزير العدل عضو السلطة التنفيذية، فمضحك جدا الحديث عن الثقة في القضاء.
وهو واقع مزري آن لنا الوقوف ضده، حتى لا نتحول لمجرد أرقام في سجل مكتظ بضحايا الحبس الاحتياطي المزاجي، لأننا قلنا لمن سرقنا أنه سارق ومارق، وعلى العموم وقبل تحقق واقع أفضل، سنظل نكرر أنك يا عزيز ورهطك مجموعة من السراق، ولنكن عبد الرحمن أو الشيخ أو ولد غده، لا يهم.